الذكاء الاصطناعي واستدامة الإنتاج الزراعي في الخليج العربي
أصبحت تكنولوجيات الذكاء الاصطناعي تملك من القدرات ما يُمكّنها من إعادة تشكيل العديد من القطاعات الحيويَّة، ولا سيَّما القطاع الزراعي العربي الذي لا يزال أحد الملفات التي لم تأخذ الاهتمام المناسب على طاولة القرارَين الوطني أو الإقليمي على حد سواء. وما أصبح واقعاً، ويمكنه أن يضيف إلى المشهد الحالي، هو أن التكنولوجيات الحديثة تقدم حلولاً واعدة، وخاصة للقضايا الملحَّة في المنطقة العربية، كتلك المرتبطة بزيادة الطلب على الغذاء والطاقة والمياه، ونقص مساحات وجودة الأراضي القابلة للزراعة، وغيرها.
ومع توقعات النمو السكاني المطرد في المنطقة العربية - من نحو 400 مليون إلى قرابة 700 مليون نسَمة بحلول عام 2050 - الذي سيتزامن حتماً مع مزيد من تدهور الأوضاع البيئيَّة المتصلة، ليس فقط بالعوامل الطبيعية، بل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية أيضاً، فإن إيجاد حلول زراعية مبتكرة أصبح أكثر إلحاحاً من أي وقت مضى.
الذكاء الاصطناعي في الصناعة الزراعية
توفر الأدوات القائمة على الذكاء الاصطناعي العديد من الحلول والمزايا للأنشطة الزراعية، ومنها على سبيل المثال المعلومات التي تهم المزارعين بشأن اختيار البذور، وتحديد أفضل المحاصيل المناسبة لظروف التربة المحلية، وتوقُّع أنواع المبيدات الحشرية التي قد تحتاج إليها المحاصيل، ومن ثَمَّ تحسين استخدام الأسمدة، وتقليل التأثير البيئي، ما يعني أن الذكاء الاصطناعي يعمل مرشداً زراعيّاً متوافراً على مدار الساعة.
وتكمُن إحدى المزايا الرئيسية للذكاء الصناعي في قدرته على معالجة البيانات من مصادر مختلفة، مثل أجهزة الاستشعار المدمجة في التربة، والمدخلات من بُعد، كالصور الملتقطة بالأقمار الصناعية أو حتى بالهواتف المحمولة. وباستخدام خوارزميات التعرف إلى الصور يمكن للذكاء الاصطناعي فحْص الصور، وتحديد أنواع الأمراض أو الإصابات الحشرية، أو إجراء عمليات مسح ضوئي للبذور لتحديد نوعها وجودتها وقابليتها للحياة، وتتيح القدرة على التمييز بين البذور الصالحة وغير الصالحة تحسين الكفاءة الزراعية، وقد تؤدي إلى تحسين غلات المحاصيل وحفظ الموارد.
وفي حالات الزراعة الدقيقة يمكن للذكاء الاصطناعي أتمتة عملية الزراعة كاملةً، وكذا أنظمة الرؤية الآلية التي تحدد المواقع المُثلى لزراعة البذور، ما يعزّز النمو الزراعي. وبحسب تقارير عالمية، فإن الابتكارات في هذا الجانب تزيد معدل إنتاج المحاصيل الزراعية أكثر من 50 في المئة.
ومما يلفت النظر انتشار تطبيقات لطائرات مُسيّرة تعمل بالذكاء الاصطناعي في كثير من الدول الأوروبية لتصوير المحاصيل وتقييمها، وتوزيع الأسمدة بدقة، وهذه التطبيقات ما هي إلا واحدة من بين مجموعة تقنيات حديثة أصبحت تسرّع إحداث تغيير ثوري في القطاع الزراعي العالمي.
وستكون الإمكانيات التكنولوجية في مجملها، والقائمة على الذكاء الاصطناعي، أشبه بالانتقال من الزراعة البعليَّة التقليدية إلى استخدام المحاريث والجرارات «المميكنة» والآلات المسيَّرة بالأقمار الصناعية!
منصة «واتسون» للزراعة الدقيقة
تُعَد منصة «واتسون» - من شركة آي بي إم - أحد أشهر تطبيقات الذكاء الاصطناعي في هذا الشأن، إذ تساعد المزارعين على اتخاذ قرارات «قائمة على الأدلة» لتحسين الحصاد، وزيادة الإنتاجية والعائد الربحي، وقد أثبتت المنصة قدرات تحويليَّة في قطاع الزراعة الأميركي - الذي يمثل أكثر من 1.2 تريليون دولار من حجم الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة الأميركية - عن طريق التحليلات التنبُّئية، وإدارة شبكات الري، ومراقبة صحة المحاصيل، وتحسين سلاسل التوريد والخدمات اللوجستية، بل حتى في قابليَّة الرواج والبيع في الأسواق المحلية والعالمية.
وتحلل المنصة مجموعات البيانات المتنوعة، ومنها بيانات الطقس، وصور الأقمار الصناعية، للتنبؤ بغلات المحاصيل، واقتراح أوقات الزراعة والحصاد المُثلى - ولا سيَّما أن 90 في المئة من خسائر المحاصيل الزراعية تعود إلى أسباب تتعلق بتقلبات الطقس - وتقليل الهدر، وتحديد مسببات تفشي الآفات أو الأمراض المحتمَلة. وتتكامل المنصة مع المعدات الزراعية الحديثة، مثل توجيه الجرارات المستقلة للزراعة، وإدارة معدات الري من بُعد، إلى جانب مراقبة صحة المحاصيل، وتقييم جودتها، واقتراح العلاجات المستهدفة. وأقل ما يمكن قوله في هذا الشأن هو أن تطبيقات الذكاء الاصطناعي في حالة مخاض، وتتجهَّز لإحداث ثورة في القطاع الزراعي.
الأثر البيئي
يمكن أن يؤدي الذكاء الاصطناعي دوراً مهمّاً في تخفيف الأثر البيئي لقطاع الزراعة -المتهم بالإسهام في الاحترار العالمي- عن طريق تحسين طرق استخدام الأراضي والمساحات الزراعية. وتظهِر التطبيقات التكنولوجية الحديثة إمكانية تقليل استهلاك الأسمدة والمبيدات الحشرية بنسبة تصل إلى 30 في المئة عن طريق قدرات تحديد الكمية المُثلى من السماد المطلوب لكل نبات، ومن ثَمَّ تقليل الاستخدامات المفرطة، ومنع الضرر البيئي الحاصل في الممارسات الحالية.
الرقعة الزراعية العربية
تبلغ المساحة الإجمالية للدول العربية نحو 14 مليون كيلومتر مربع، أي أكثر من 10 في المئة من إجمالي اليابسة في العالم. ووفقاً لبيانات البنك الدولي، فإن الأراضي المزروعة في المنطقة لا تتجاوز 6 في المئة، أي ما يعادل 840 ألف كيلومتر مربع، من أصل 14 في المئة من المساحات القابلة للزراعة. وتواجِه الصناعة الزراعية في الدول العربية عدداً من التحديات الواسعة، من بينها الاعتماد الكبير على المصادر الطبيعية، مثل مياه الأمطار والمياه الجوفية غير المتجددة ومياه البحر المحلاة.
وتتفاقم هذه التحديات مع تغيُّر المناخ الذي يؤدي إلى ارتفاع درجات الحرارة، وانخفاض معدلات هطول الأمطار، ما يؤدي إلى موجات جفاف أكثر تواتراً وشدة، وتزداد الحالة تأزماً بالممارسات الزراعية غير السليمة، وأنظمة الري غير الفعَّالة، التي تزيد إجهاد موارد المياه.
وتفتقر العديد من الدول العربية إلى التكنولوجيا المبتكرة والبنية التحتية للممارسات الزراعية الحديثة والمستدامة الأكثر ملاءمة للظروف البيئية القاسية في المنطقة، وتمثل هذه العوامل مجتمعةً تحديات عملاقة أمام نمو القطاع الزراعي واستدامته في هذه الدول.
التحول الزراعي في المنطقة العربية
على الرغم من أن المنطقة العربية تُعد من أبرز المناطق التي تعاني ندرةً في المياه على مستوى العالم، فإنها مهيأة على نحو فريد للاستفادة من التطورات الزراعية التي يحركها الذكاء الاصطناعي، إذ يمكن أن تساعدها تقنياته على الاستخدام الفعَّال لموارد المياه الشحيحة، من مياه الأمطار والمياه الجوفية إلى مياه الصرف الزراعي المحلاة والمعاد تدويرها، ما قد يوفر نحو 50 في المئة من موارد المياه مقارنة بالوضع الراهن.
ويمكن للذكاء الاصطناعي تسهيل التحول من ممارسات الزراعة التقليدية إلى الزراعة الدقيقة، وزيادة العائد، وكفاءة الموارد. وقد يؤدي استخدام المحاصيل المعدلة وراثيّاً -التي تتطلَّب بطبيعتها كميات أقل من المياه، وتستطيع تحمُّل الظروف القاحلة- إلى زيادة كبيرة في المساحات المزروعة، وتقليل اعتماد المنطقة على الواردات الغذائية التي تمثّل أكثر من 50 في المئة من غذائها حاليّاً.
توصيات السياسة العامة
يمكن لراسمي السياسات الحكومية تأدية دور استراتيجي في تسريع اعتماد الذكاء الاصطناعي في القطاع الزراعي، ومن هذا المنطلق نرى أن تشتمل طاولة القرار على المحاور الأربعة الآتية:
- المحور الأول مرتبط بضرورة الاستثمار في البحث والتطوير، وإعطاء الأولوية للتمويل في مجال تقنيات الذكاء الاصطناعي في الزراعة، لتشجيع الابتكارات التي يمكن بها مواجهة التحديات الدقيقة والفريدة في المنطقة.
- المحور الثاني ذو علاقة بالتعليم والتدريب، ويستدعي الارتقاء بالبرامج التعليمية والتدريبية وتطبيقات الذكاء الاصطناعي في الزراعة، وإعداد القوى العاملة المستقبلية في هذا القطاع المهم.
- المحور الثالث يستوجب تحفيز بناء الشراكات بين القطاعين العام والخاص، وتسهيل التعاون بين المؤسسات العامة والكيانات الخاصة لتسريع تطوير الحلول القائمة على الذكاء الاصطناعي في القطاع الزراعي، واعتمادها.
- المحور الرابع يتعلق بالأطر التنظيمية التي تتطلب وضع المبادئ التوجيهية ولوائح واضحة بشأن خصوصية البيانات والاستخدام الأخلاقي للذكاء الاصطناعي، والتنفيذ المسؤول لهذه التقنيات.
وإضافةً إلى ما سبق، فإن ذلك لا يغني عن الاهتمام بالبيئة الإيكولوجية للزراعة كاملةً، ولا سيَّما تقديم الحوافر للتوسع في «الميكنة» الزراعية، وخاصة في ميدان الآلات المتصلة بالإنترنت والقابلة للعمل والقيادة الذاتية.
الطريق إلى الأمام
لا أحد يستطيع إنكار قدرات الذكاء الاصطناعي وإمكانياته الكبيرة في إحداث ثورة بالقطاع الزراعي، وتوفير الأمن الغذائي، ولا سيَّما في المنطقة العربية. وبينما تواجِه المنطقة تحديات متنوعة، مثل ارتفاع تكاليف التنفيذ، وضعف القوى العاملة في هذا القطاع، يمكن تبني سياسات استباقية واستثمارات استراتيجية مدعومة بإمكانيات الذكاء الاصطناعي في مستهدفات الزراعة المستدامة، ففي ظل الطلب العالمي المتزايد على الغذاء وتضاؤل الموارد الطبيعية لا تُعد الاستفادة من الذكاء الاصطناعي في الزراعة المستدامة فرصةً فحسب، بل أصبحت ضرورة مُطلقة أيضاً لتعزيز الأمن الغذائي العربي بتوفير إمدادات الغذاء، وتعزيز قدرات الإنتاج المحلية، والحد من الهدر، وتعزيز سلامة الغذاء ونُظم التغذية، إلى جانب مواجهة الأزمات العالمية والكوارث المحتمَلة التي قد تتسبب بانقطاع سلاسل التوريد، وارتفاع الأسعار.
والمطلوب هو إيجاد بيئة مناسبة لاحتضان الثورة التكنولوجية الزراعية، لإحداث تحول حقيقي في المشهد الزراعي العربي، والتحرك نحو مستقبل أكثر استدامة.
الأستاذ الدكتور/ علي الخوري*
*مستشار مجلس الوحدة الاقتصادية العربية، ورئيس الاتحاد العربي للاقتصاد الرقمي في جامعة الدول العربية